بين الحب واللاحب
بقلم : محمد يوسف جبارين (أبوسامح)..أم الفحم..فلسطين
لو أن اللاحب فنجان قهوة لشربته وأراحت نفسها وأهلها من الحب الذي يملكها ، ولا تملك له الا أن تكونه حياة تحياها ، لكنه اللاحب هو ما لا يمكنها أن تكونه ولا أن يكونها ، فهو يعني أن تخرج نفسها من ذاتها ، فلا تكون هي ، فاذا كانته فهذا يعني أنها حين تنظر في المرآة ، فلن تعرف من تكون هذه التي تراها أمامها ، وتقول بأنها هي ، فاذا ظاهر المظهر يوحي بأنها هي ، فلن تعرف هي من هي ، فمن هي ؟ فلن تعرف كيف تجيب ، واذا هو اللاحب كانها ، وبدا بأنه هي ، فهي بما هو لا تعرفه ، فما هو ، وكيف هو هي ، فهي الحب فكيف هو يكونها ، فأن يكون اللاحب حبا ، يعني أنه صار الى حب لا يحمل معنى الحب ، وانما هو حب اللاحب بأن يكون ما هو ، فأن يكونها برغمها ، فلا تكونه بما هو ، ولا كما هو ، فهي بكذا حال مختزلة في كينونة موجوديتها ، وهذا قسر حياة عليها ، فأين تكون بحبها ، بما هي ، أفي ذاكرتها ، في خيالها ، في فكرها ، في كتاباتها ، فمادتها التي تطل على الفضاء من حولها بكل فتنة تخلب الأنظار معمورة بالحب ، فبهاؤها من روائع حروفه ، فها هي كما هي ، فأن تحيا حياة اللاحب ، يعني أن نورها في داخلها ينطفىء ، وهو ما لا يمكنها أن تفعله بحجب وقوده عن فتيل مصباحه ، فهذا النور هو الحب الذي يمدها بمبرر وجودها ، فما حياتها من دونه ، فهو ما لا يدركه من هم عندها في رتبة وجودها ، فاذا هم أو هي تختارهم هم ، فهم أهلها والداها واخوتها ، فهم جميعا على رأي واحد ، بأن تترك ما هي فيه الى ما هم ينصحونها به ، بل ويصرون عليه ، فالحياة لها ظروفها ، وضروراتها ، والحب الذي تقول به لا يعطيها حياة تتقدم اليها راجية موافقتها على أن تحياها ، فهنا العريس يكبرها بسنوات بعدد أصابع اليد وأكثر وسامة ، وأغزر علما ، ولدى والديه من الثراء ما يوفر لها امكانيات حياة في جنائن غناء ، فلا يطالها نقص في حاجة من مادة طيلة عمرها ، وهو بعيد عن السياسة ، بل يعتبر مسائل الوطن خارج دائرة عقله ، فهو برأية مخلوق لعيش لا ليطحنه الوطن ، وأما الذي يسلبها قلبها وعقلها ، وتهيم في حبه ، فهو يكبرها سنا ، ويكاد يكون كهلا ، وقد تزوج من قبل ، وهو على جليل قدره من الناحية العلمية ، وبأنه كان استاذا لها تعلقت به كثيرا ، فهو متطرف ، ولا يحسب للموت قيمة ، فالوطن عنده هو الدنيا وما فيها ، فاعتقاله أو اغتياله مسألة لا تنزل من باله ، فلربما يتم الزج به في السجن في ليله زفافها ، فلا تعود تراه ، ولربما يتبين بأنه وراء عمليات فدائية كثيرة ، فيتحول الى مطارد ، فلا يستوي لها على أي وجه يدور عليه ، ولا تعرف في أي مكان هو موجود ، ولربما ينتقمون منه باعتقالها والزج بها في السجن ، بتهمة يلفقونها لها ، فتلك حسابات أهلها ، فحبهم لها يعني أن تقال من حبها ، ليضمها اللاحب ، في وقت يكون فيه الحب في داخلها رافضا هذه الأحضان ،
وانها لكذلك يتقلب لها مصيرها بين طيات تعقلاتها ، وقد حارت في دربها الى اقناع أهلها بصوابية حقها ، بأن تكون هي من تختار مصيرها ، وبأن الصواب بأن يتركوها تحمل أعباء اختيارها ، ولا يدعونها بحال من تتمزق بارادة أهلها خشية أن تشقى بحياة مشتقة من معطيات ، هي في ظاهرها ليست بالضرورة تدل على ما يصل بهم التحليل اليه ، وحتى وان يكن ذلك صوابا ، فهذا يسعدها ، بل حب الوطن هذا وما يمليه من بذل ، هو بعينه الذي كان البوابة التي دخلت منها على غير ميعاد الى حبها ، فعرفت الحب ، وأحست ماذا يعني في حياتها ، فباختيارها هي يتكامل لها حسها الانساني ، فالحب كلي ، وليس تجزئيا ، فحب الوطن يتكامل لها بحبها ، فأما أن تختار اللاحب على اطلاقه ، فكيف يكون حالها ، فغامت بها بلابلها وغم عليها بالها ، بينا جفونها تعتصر دمعة قفزت بحسرة جابتها فرجفت لها مشاعرها ، فثمة حل تفر به من مأرقها ، لكنها ليست هي التي تجازف بفرار ، فتضع أهلها في حيرة وارتباك ، تحيل وضعهم الاجتماعي الى سقوط من مرتبة الاحترام التي هم عليها بين الناس ، فهذا مجتمع تحكمه جملة معايير وعلى أساسها يقيس ، فالمقبول والمرفوض ، وهو قانون العيب ، فعيبا هو الخروج على نسق المعايير ، ويبدو أن تغييرا في هذه المعايير ، لن يحصل من دون تطور علمي وتحولات اقتصادية ، وحتى ذلك الوقت فليست هي التي بمكنها أن تخرم المعايير ، فقانون المعايير بأن لا مفر من كونها العروس التي يأخذ بيدها أبوها وخالها الى بيت العريس ، وسط حضور لا يسأل أحد منهم عن قلب يرفرف بعيدا عنهم ، باحثا عن جوع يأخذ به بعيدا ، فهم في فرح عروس ، لا يمس الفرح منها نبضة قلب لها .
وبينا هي تتماثل مأساة تتشكل لها أمام عينيها بغير ارادتها ، وتدور بها صور من علاقة ارادة بفكرة تدور بها فتنجيها من مأساة تنتظر بغير عدل ، جاءتها رسالة منه يحكي فيها ما تركته في حسه وفي ذهنه صورة لها في شوارع القدس القديمة ، وكانت أرسلتها له ، وكتبت تحتها : ( مريت بالشوارع .. شوراع القدس العتيقة ) ، وجاء في الرسالة :( الآن .. الآن أكرمت نفسي ، وأرويت عيوني من صورتك ، وأنت تتعطرين بأصداء التاريخ في القدس ، فلقد افترشت الصورة شاشة الحاسوب لمدة تزيد عن النصف ساعة ، وأنا أتملى الصورة وما تبعثه من سياحة للفكر في متون الأيام ، وأحسست وأنا أتفرسها وأنسرح بفكري في جملة الزمان ، بأن سردية توشك أن تلملم نفسها في حكاية أو مقال عن شروق والقدس والآمال والأحلام والنور والظلام ، تذكرت أيامي مع القدس ، ولا أدري كيف الوقت جرى ، فاذا هي نصف ساعة ، لا تزيح عيوني عن الصورة ، وشكرت لك كثيرا ) ، فطابت نفسها لهمسات الألفاظ ، وليس مثل الحب تطيب به جوارح الانسان ، فلقد أيقنت بأنها بحبها تجذرت في تكوينه ، وانه الحب الحقيقي ، الذي لا سواه منشأ الالهام ، وباعث العقل ليجنح في المخيال ليستولد مقالا من ربط بين كلمات ، عميقة الدلالة ، فشروق الحرية ، والقدس واسطة العقد في جغراقية هوية عربية واسلامية ، وما يتصل بكل ذلك من آمال في سير أمة بحالها ، وهذا كله نطقت به الصورة في وعيه ، وهو ما قصدته حين عرفت بأنه وهو يتملى منها وهي تتهادى في شارع من شوارع التاريخ ، فانه الحب سوف يتكامل به في سيرة حب يكتبها ، وعندها مرت في خاطرها كلماته : ( مأخوذ أنا بسحر عينيك وحلاوة رسمك ، أحبك و قلبي ونبضه يخفق بحروف أسمك ، عيوني كيفما دارت ترى الأشياء بلون حبك ، كلما رف صوت هفا بي الشوق الى صوتك ، وما احتلني مثل عطر معطر بحلاوة ثغرك ، شفتاك شهوة تسلبني عقلي فأظل أهذي أحبك ، سناء ضياء يأسرني وأهيم الى منابته في خدك ، أنفاسي مبللة بمرءاك بهمسات عينيك وعطرك ، وأكتافي وما عليها من ذكريات كتبتها بشعرك ، وكلماتي وما فيها من رحيق شربته من قدك ، فاتنتي عمري حياة حياتي يا حياتي أحبك ، أنا ظمآن وقد سبيتني بخطفة برق من عينك ، فأنا ما عرفت الحب يا حبيبتي قبلك ولا بعدك ، ولا رفت أجنحة روحي ولا قلبي طربا بغيرك ، فدعيني أبوس الأرض التي أنبتت زهرة مثلك ، أصبح لي وطن أنت سناه من ساعة ما عرفتك ، في قلبي أنت وأبحث عن عز يضنمي ويضمك ، ... ) ، وامتد بصرها الى الحائط أمامها ، فعلية قد علقت كلمات له من مثل كلامه الحلو هذا ، تقول : ( الوطن أنت ، شروق حرية ونهار ينطق أحبك ، شروق الحرية نهار تقول الشفاه فيه أنا مجدك ، الحب ماء الوجود جوهرة الحرية تسكن وطنك ) ، وكانت قد خطتها بخط يدها ، وقامت بتصويرها ، وأدخلت الصورة الى حاسوبها وأرسلتها له عبر بريدها الألكتروني ، وأرفقتها بقولها : ( هذه الكلمات معلقة على جدران غرفتي وعلى جدران قلبي ، أراها كل صباح ، أقراها ، تعطيني الأمل والقوة ، أراها كل مساء ، أقرأها ، تعطيني الطمأنينة والأمان ، فهل تذكرها ؟ ) ، ومن فوره ، لم ينتظر لحظة ، فقد كانت مشاعره هي التي تحركه ، وتستنطقه ، فعقله ملك مشاعره ، فلا يملك سوى أن يغترف من حسه ما يفيض به ، فكتب اليها : ( كيف لا أذكرها وهي شروق الحب في أنفاسي ، أنا أحبك يا حبيبتي فأنت نبض حياة حياتي ) ، ومع ذلك لم ينزل له تساؤله ، عن جفاء لم يعرف له وجها من معنى ، قد امتد وقتا طال فأمضه ، فماذا دعاها اليه ، فثمة ما لا يعرف له سببا ، فأضاف قوله لها : ( أيها الورد الذي من عطره شرب القلب وغنى ودنا ، عافت النفس جفوة لا تطاق ، ليس للحب فيها غير الجوى ) ، لقد كان يريدها كما الحب يملي له ، بأن تكون دوما على تواصل ، تماما كما وعت هي من رسالته ، فكلاهما يمتلكهما الحب وينطق بهما ، ولم يمض يوم أو يومان حتى كتبت تقول له : ( لقد رأيتك البارحة في منامي ، كنت أمشي تحت المطر ، واذ بك تتقدم باتجاهي وكان معك مظلة ، ركضت اليك لأحتمي من البرد والمطر ، لكنك قسوت علي ، وأكملت الدرب كأنك لم ترني ، وكأني غريبة ، ... ، بي حزن كبير ، وألم من ذلك الموقف ، لم يفارقني طوال النهار ، أعلم انه مجرد حلم ، وأن ما حدث ليس حقيقي ، لكن ألمي حقيقي ، و كلما تذكرت الحلم ، أشعر بضيق في صدري ) ، ولم يتأخر رده على الرسالة ، فقد جاء رده عبر بريدها الألكتروني سريعا يقول: ( دنيا عجيبة ، وأنا البارحة رأيتك في المنام ترفعين رأسك من وراء سور بطيئا تحاولين أن تختلسي النظر الي ، ولمحت في وجهك تجهم فنهضت من فوري وسارعت اليك ، كانت بي خيفة عليك ، خشيت من أن شيئا تضيقين به ، أو أن ثمة ما أزعلك ، وكان نهوضي سريعا ومربكا لمن كانوا حولي ، وعندها أفقت من حلمي ، وبي قلق ، وعدت في يومي أسائل نفسي هل ثمة ما تضيق به ، وخطر على بالي ، بأنه اذا ثمة من أزعل شروق فلا بد أن يكون تخلف أو متخلف ، ورن في خاطري كتاب موجود عندي أسمه ( التخلف الاجتماعي ) وهو كتاب رائع ، وقلت أرسله لها فلعله يساعدها على وعيها بالتخلف الذي يشقينا ، فأما عن حلمك فهو دلالة المعنى على ضده ، فلا أدق من تعريف للشيء بضده ، فتلك البلاغة وحقا هو الحب يجمعنا ، وحقا هي أنت التي لا غيرها ، فلا مثيل لمكانتك عندي ، فأنت التي لا سواها واذا ثمة دلالة لحلمك على مكنون في صدرك ، فهو لربما حس يراودك بأن تقصيرا من جانبي حيالك، فاطلبي مني ، قولي لي ، وأن تحت أمرك أشرح لك ، أفسر .. أقول لك ، أكتب اليك ) .
سبحت كلماته في مشاعرها ، فتناهت بها الى أن الحب بينهما قد اغرق نفسيهما ، ومزج بينهما ، فنبض النفس الواحدة من الأخرى ، وهو نبض الحب ، فسواء عليهما كانا في نومهما أم كانا في صحوهما ، فهما يحسان بعضهما البعض ، على المسافة بينهما التي ترسمها جملة القيم والمعايير البائرة ، فأحلامهما تحدث بعضها بعضا ، كما التخاطر الذي اتضح لها بأكثر من دليل بأنه قائم بينهما ، فما أن تريد أن تقول له شيئا حتى تجده يحدثها بشيء مثله ، كأنما به حس بما تحسه أو قلق من قلق تقلقه ، فثمة عمق في النفس لا يملك سواه الحب أن يبلغه ، ولقد جال في خاطرها أن تعالجه برسالة ، أو تهاتفه ، أو تفتش لها عن فرصة تطير في خلالها اليه ، بتدبير يتم لها به تحييد المعايير التي لا تجيز لحب أن يكلم نفسه ، فلديها الكثير مما لم تقله له حتى الآن خشية على نفسها وعليه ، فضغط من تخلف اجتماعي يطوقها ويكاد يسيرها برغباته ، فآثرت أن تنظر في الكتاب الذي أشار اليه فعساها تجد لغة تسهل لها الى تفهيم والديها ، بما يحلو لها ، وعندها تعود اليه ، وقد بلغت وضعا لا بد وأن توقفه عليه .
ومرت الأيام وما من جديد ، فكل شيء راسب في مكانه ، استنقاع في المفاهيم والأفهام ، وليس سواها التي لا يمكنها أن تفهم ما يفهمه الذين من حولها ويتوهمون بفهمهم أنهم يفهمون ما هم بفهمهم بالغون بها .
فاذا هي وبما آل حالها اليه ، يخطر على بالها من احتمالات تذهب بها بعيدا فتستبعدها ، وتقول في نفسها والحسرة تشقها نصفين ، فليبق هو ساكنا وجدانها ، وخيالها ويشاغل منها كل الوقت فكرها ، وليفعل أهلها بجسدها ما يريدون ، فهم الذين أنتجوه في مصنعهم وهو فيما يتجلى وعيهم عليه ، فانه ملكية خاصة بهم ، وما يدرون بأنهم أعجز من أن يسيطروا على الروح ، وأعجز من أن يقعدوا لها على دروب الخيال ، فلا أقل من أن يبتعد من الآن عن قناعته بأن حبهما سوف يرسو بهما على بيت يجمعهما ، وليبحث عن دربه في الحياة ، لكنها وهي تقول في نفسها كل هذا الكلام ، كانت تتأسى وتجوبها الحسرة ، وتكاد تتقطع أشلاء ممزقة مبعثرة ، فلقد تثاقلت بعقل أمسك بناصية عقلها ، فلم تقوى على ما يقوله لها ، ولم تتماسك ، أحست بعتمة تقعد لها بين عينيها ، فكأنها ترى الدنيا من نظارة سوداء قاتمة ، وثمة مرارة تجتاح أحاسيسها ، فلا تكاد تحس بغير المر في حلقها ، فهو الفراق الذي يتماثل لها كما الموت ، بل هو الموت بعينه ، ولا يمكنها الا أن تعيش معيشة خلوا مما تعتاش عليه الروح ، وفيما ترى لم يعد يمكنها الا أن تموت وهي في الحياة ، وبأن تموت كل لحظة ، فهذا اختيار غيرها ، وهي لا تدري كيف تختار الحياة ، واذا اختارت فلا درب الى حياة تريدها ، فهي السدود التي يعني تجاوزها أن تحيا في وقت تختار هي فيه الموت لمن أنجباها والدها ، فهي بحال من تدفن والديها أحياء ، وذلك من أجل أن تحيا حبها ، فالمجتمع به قسوة ولن يرحمهما ، فماذا تفعل ؟ مالت بعقلها الى قلبها وقامت الى الهاتف ، ولم يكن أحد في البيت وهاتفته ، ورفع هو سماعة الهاتف ، وعرفها من صمتها الذي اعتاده منها ، في كل مكالمة معها ، وقالت له ، بأنها تؤثر أن تترك له أن يقول ما يشاء قبل أن تنطق بكلمة ، واذا به والجوى قد نال منه ، وضيقه بما يبدو وكأنه الجفاء الذي لا يجد له ما يبرره ، يقول لها : ( أذوب في أشواق تعذبني ، وأسرح في عطر الورد في خيالي ، أنا يا وردتي قد ضاع مني دليلي الى قلمي وأوراقي ، خذيني الى دفء الجمال ، فلطفه يضيف في صلتي بأقلامي ، كيف الكلمات أكتبها وجفوة الورد تمزق أعصابي ، جف الحبر في الأقلام وتبخر الماء منها ، وما عدت أرى غير الصفرة في الأوراق ، صحراء حطت على الأوراق ، وغام الفكر .. تاه الحس ، جفاني الورد ولا غير دبيب الحيرة على حسي ، في خيالي ، فأنا الذي يفتش عن أشلائي ..كيف ألقاها ، والجفاء يعني بأني بلا ذات .. بلاك ..كيف الذات تعرف ذاتها وعقلها وحسها أخذته حين غادرت معاك ، ماذا أبقيت غير أن أرجوك أن تعودي ، فأن لا تعودي يعني أن لا تعرفني ذاتي ولا أراها ولا تراني ، فاللامكان أن أكون بلا كينونة مكونة بماء هواك ..كيف يحيا مثلي بلاك .. مزفتني ، بعثرتني ، شتات يجوب الفكر ، فلا مرساة ترسو بي في عيون تمدني بمائي ونبض حياتي ، باعدتها عني ، فمن لي بها ، وأنت التي تباعدت ، تاركة لي حيرتي وحرارة تتصاعد في زفراتي ، شوتني الآهات ، حتى بت لا أملك سوى أطير اليك ، فأين أنت وكيف ألقاك ، تعالي يا روح الحياة ، فالشوق يجرفني من أخمص قدمي حتى أعلى طبقة في رأسي ، أرعش ليلي في التيه حائرا ونهاري .. فلا تسأليني عنه ، فهو ظلامي الذي لا ييق مني غير شتاتي .. فجراحي يمزق مني الغناء ، وأنت في عيني دموع الوفاء .. شفائي منك ضياع الشفاء يا عيون قلبي ، حبي غدا بكاء . )
وكان آخر ما تصورته أن الأمل بزواج منها ، لم يتساقط له بعد ، على الرغم من كل كلام قر في أذنيه عن معارضة والديها ، وعن أنها لا يمكنها أن تتجاوز مرادهما حتى وان كان في ذلك ضياعها بضياع حبها ، وقد بدا لها ذلك في قوله الذي قال ، وقر في وعيها ، فاستنهض منها الدموع تتدافع الى مآقيها ، وهي ذاهلة عن نفسها لا تعرف فكاكا من تناقضات تكبس على نفسها وتفقدها اتزانها ، فماذا تقول له ، ولنفسها ، فما أن رن صوته في خلجات نفسها حتى دوت مشاعرها تردد في أرجاء نفسها أحبك ..أنا أحبك ، وانت تعرف ذلك ، وما نطق كلمة الا وكانت تسرى في بدنها تحسها ، وهي مرتبكة حائرة ، وظلت تسمعه لا تنبس بكلمة ، وانما هي أنفاسها التي لا تخفى عليه حرارتها ولهفتها البادية من موجاتها المتلاحقة على أذنه ، كانت لغة نفسها الى نفسه وهو يردد قوله في أذنها ، فما أن أنهى كلامه وانتظر قولا لها يبرد حرارة شوقة ويقلل من تيهه وحيرته ، حتى فوجىء بها تقول له : لكن نصيب حبنا أن يبقى يرتع في خيالنا ، نلجأ اليه ونحياه خيالا ، فأنت تكتبه وأنا أبكيه وأنت تدمع لحالك وحالي ، فهذا ما يريده والداي ، وأنا لا أملك الا أن أحافظ على وضعهم الاجتماعي ، فلا يمكني الا أن أكون خروفا يذبحونه في يوم فرحهم بزفافي الى غربتي وتعاستي وضياعي ، فماذا أفعل غير أن أكون ما يريدون ولو فيما أملك أن أفعله .. الضحية ، فهذا هو أنا التي بين يديها سعادتها ولا تملك أن تضمها الى نفسها ، فتدعها تفارقها ، وهي عاجزة ، فكيف أنجو بنفسي ونكون لبعضنا هو هذا الذي لا أعرف له جوابا ، فقال : بل أنت لي وأنا لك ، وقد أدمت قلبه كلماتها ، وفر لوهلة عقل والديها من عقلها ، وراحت تردد على مسامعه وهي دامعة : ( أنا أحبك ، أحبك ولن أحب غيرك فأنت حبيبي ) ، ثم صمتت ، بينا أناملها تمسح دمعتها ، وبها حس بأنها يجب أن تقول له الحقيقة كلها ، فالحب هو الحب الذي يستقي منه الصدق كلماته ، والصدق في حال مثل هذا عبارات باكية ، ومن جانبه فالفراق لم يدع وعيه يسلم أمره لواقع يكاد يراه ، وأما هي فما عرفت كيف تتماسك ، ولا كيف فلت منها قولها : هو البكاء ، لم يبق لنا سواه البكاء ، فباشرها ذهلا : (حب وفراق فماذا عنك وعني وأين نحن مما يجري لنا ، فلا ارادة لك ولا لي ولا نفس فيك ولا في ذاتي ترحمك وترحمني ، فمن أنا ومن أنت ، ألسنا من الخلق ، هل نحن قشا تذروه الريح وتلاعبه على أكفها كما تشاء ، فما الانسان ؟ . ليس عدلا هذا الجفاء ، فلا القلب يصوم عن نبضه ، ولا عن خفق الدم في العروق ، ولا صام عصفور عن شدوه ، ولا كف جناح عن سباحة في الهواء .. أنفاس الحياة تظل خافقة ، فكيف يقول هذا أو ذاك بكف حياة عن غناء ، انظري الورود كيف هي باسمة ، لا تصوم عن نشر العطور ، فكل الذي يريد لها كفا ، فانما يدعو الجفاف الى العروق ) ، فما كان منها وهي تشرب بعض صلابة موقف من مشاعره وقد سكبها في كلماته ، الا أن طافت بفكرها الى أحوال قيس وليلى وقيس بن ذريح ولبنى وهالة ومحمد ، وقالت وقد كادت تضحك من داخل لوعتها ، فبدا ذلك في صوتها فهو مزيج من دمع وضحك ولوعة حرى وقالت : ( ذبيحة أنا ، وأنت تكتبني ، ألا يكتب حب ذبحه في كتب ) ، فقال : ( أنتركهم ينتزعون حياتنا منا ، لنبحث عن خلود في حياة من لم يدبوا بعد على الأرض ) ، فقالت : ( نبقى في ذاكرة الحياة شهادة شهيدة وشهيد حب لم يجدا لهما في الحياة مساحة لحبهما فحطا في الخيال اصرارا على البقاء وفرارا من ظلم الحياة ) ، فقال : ( لم يظلم الحب أحدا ، بل الحب هو النفي من كل امكان وامكانية لظلم ، وهنا مصدر قوته ومع ذلك فهو في سرديته يؤثر في من عرف الحب وأحسه وأراده حياة تتكامل له به ، فأما الذين أفرغتهم الأيام أو أفرغوا هم أنفسهم من الحب فكل أثر لسردية للحب فيهم ، فكما حالنا لدى والديك ،) ، فقالت : ( بي جوع الى الخلود ، فكلما لاحت لي مأساتي بكامل حالها أتماثلك وحروفك وأنا واياك في الخيال نفرح الفرح الذي حرمونا منه ، فساعتها أحس الحروف كيف تتعانق في سردية حبرها أنا وقلمها أنت ، وأوراقها الخيال الذي سرعان ما يهبط بنا الى الدنيا في زفاف من خلود ، فنحن على كل لسان وفي كل زمان ) ، فأتبعها قوله : ( أبيتا كنا نحلم بأن نأوي اليه معا ، قد أصبح مرشحا ليكون من لبنات من خيال ، فيا له الخيال ما أرحمه ، فكل معذب يطير اليه ليجد فيه خلاصه ، فماذا نفعل في بيت لا نشرب فيه قهوتنا معا ، ولا نغفو معا ، ولا نصحو معا ) ، فقالت : ( بل ونأكل معا ونربي أطفالنا معا ، ونحيا أحلى حياة ) ، ثم ارتفع صوتها بآه وآه وآه دلت على نفس شواها عذاب حيرة ، تناهى في قولها له فكأنه البكاء يبكي بكاءه ، فثمة كلمات تتساقط على أذنه ، فهي نفسها بما هي به ملوعة تحدث نفسه ، فالتاع ودمعت عيناه ، فجاء صوتها : ( لا تبكي في أذني ، فكفاني أني أبكي ، فليس لجهل الآباء ما يقدمونه للأبناء سوى الضياع والبكاء ) ، ثم أردفت قولها : ( اننا سوف نبقى بلوعة حبنا حكاية تكتبها أنت وأنا بالدموع ، تحكي للمعذبات والمعذبين الذين لم يخلقوا بعد حكاية الحب والقيود التي ينتجها المجتمع ، بلا أدنى وعي بقيمة الانسان ) ، فقال : ( خلود الورد بعطره ، فلماذا أرادوه خلودا باليبس يحط على أوراقه ) ، فقالت : ( لا يعرف ابر النحل الا من انزرعت له الابر في لحمه ) ، وكان يسمعها وهو يستهجن استسلاما يبدو من جانبها ، فهي تحدثه وكأن الفراق بات حقيقة قائمة تنتظر ظهورها في مشهدها الذي سوف تظهر عليه في وقت يدنو ويقترب ، فعافت نفسه حالا لا تملك هي فيه أن تجد نافذة الى وعي أبيها وأمها فتطل منها ، من داخل حبهما لها ، فلربما تتبدل مأساة توشك أن تحل بفرحة تفرض نفسها ، فقال لها : ( أنت تصرين على أن لا تتركي حبنا يرسم لنا مصيرنا ، أنت تريدين مصيرنا يصير من داخل ارادة من لا يريدونه ان يصير الى ما يجب أن يصير اليه ، فكأن الحب عندك ليست مسألة حياة ومصير ، وكأنك ليست هي التي أحبها ، فأو الحب أو اللاحب ، لا يمكن لحب أن يختار اللاحب ، كيف لحب أن يختار مجلسه على رفوف اللاحياة ، لتتولاه حياة ما قال بها الحب ولا أجاز لها دربا ) ، فقالت : ( أن لا أكون خير لهم من أن أكون ، فأن أكون كما أحب أن أكون هو ما لا أراه سوف يكون ) ، فقال : ( أن تكوني يعني أن تكوني ، فأنت تختاري غير ما تسمينه الحب يعني أنك تتوهمين الحب ولا تعرفينه ، فالحب ما اختار غير نفسه ) ، فقالت : ( أفكل الحب الذي أحب وتقول لي تتوهمينه ، فما هو الحب ، ان لم يكن هو الذي أعرفه ، وهل تشك في حبي ) ، قال : ( أن تختاري اللاحب ، يعني بأنك ترتضين غياب الحب ، والحياة بدونه ، فأنت بالحب وبدونه يمكنك أن تعيشين الحياة التي تحبين ، وكلمة الشك لا محل لها من الاعراب هنا ، فهنا أنت تختارين غيري ، يعني أن الحب الذي أسمعه منك وأعنيه ، تضعينه في رتبة احتمال ، وأنت تقررين مصيرك ، فاذا الحب خارج المصير ، فهل ثمة ما يدل عليه ) ، فقالت : ( أنا مقهوره ، كمن رسفت القيود في يديها ولا يمكنها فكاكا منها ، يسوقونها الى سجن ، وقلبها يرفرف بعيدا ، مع من تحب ) ، فقال : ( ولماذا يجب أن نخرج من الحياة لكي نكونها كما تريدننا ، فهي لم تردنا كما نريدها ، ولا هي تريد أن تكوننا كما نريد ، وانما هي بما هي عليه تريد أن تستخلصنا من حياتنا لكي نحياها حياة لم تخطر على بالنا ، فأي حياة هذه التي تستحيل بالجهل والقهر الى ما لا نطيق ) ، وهنا ضاقت عليه نفسه ، أحس بضيق يطوق روحه ، فلم يعد في مقدوره أن يسمع أكثر مما سمعه ،عن مبررات الحب الذي يختار اللاحب ، فلقد أحس بأن الحب يطرده من الجنة ، فكأنه كمن خرج من كل آماله وأحلامه ، أو من خرج من الحياة ووقف على حافة فراغ مذهل ، فلا هو بقادر على الخطو الى داخل الفراع ، ولا بمكنته أن يظل على عتبات حياتة تودعه ، وانه لكذلك راح يهذي : ( حين اللاعقل يصبح عقلا واللافهم يصبح فهما واللاممكنا أن يكون واقعا يغدو واقعا ، فأنت لا تدري هل أنت في صحوك أم في منامك ، تتوه الفوارق بين الحلم وبين العلم ، فهل أنت بعقل أم بغير عقل ، وبعينين أم بلا عينين ، وهل الماء سرابا أم السراب ماء ، تنتابك حالة من الخروج من الذات بحثا عن عقل يدلك على ذاتك ، فلا تدري كيف يمكنك بلا ذات أن تغدو ذاتا مفكرة تعرف أن تمييز بين الأشياء ، غمام يحلق لك فوق رأسك ، فهل الوهم باب خلاص من واقع أنت فيه ، أم خلاص الواقع منك هو بعينه الخلاص ) .
..................................................................
5/6/2010
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق