فليخرجوا
بقلم محمد يوسف جبارين ( أبوسامح) .. أم الفحم..فلسطين
عيونهم تتقادح شررا ، وتتندى منها دموع من نار، تجري على خدودهم فتراها سالكة ، حتى اذا بلغت أسفل ذقونهم سقطت على قمصانهم أو على الأرض مباشرة ، بينما نظراتهم شاردة ، أو تطوف في أرجاء المكان ، وأبلغ ما في هذه العيون حدتها، فاذا ما انضافت الى امارات وجوههم وتعابيرها ، بدا الغد ساكنا فيها .. بها اصرار حاد وعنيف ، تكاد بادراكه، أن تتناثر كل قناعة ، بأن تقوى أية صعوبة ، على اعتراض الارادة التي تطل من هذه العيون ، فتوقفها عن مرادها ، فلا تبلغ أهدافها في الحرية ، فالمستقبل قد سكن هذه العيون ، وهو يدل على نفسه بهذا البريق ، وبهذه السخرية في هذه الدموع ، وبهذا العنفوان في هذه الامارات ، وهذه الايماءات ، وهذه المصابرة التي تنطق بها هذه الوجوه .
وأما الحاضر ، فهو في وجوههم كالمرجل في أحشائه الغد يتقلب ويتكون ، مثل الطفل في أحشاء أمه ينمو ويتشكل ويوشك أن يخرج الى الدنيا .
ومن أفواههم تطل نيران ، في كلمات تتصاعد من صدورهم ، دالة على جراحات عميقة ، تشق نفوسهم وتدميها ، وأخرى كلمات فصيحة الدلالة ، على الكرامة ، وعلى الكيفية التي تخرج بها العزائم ، من جوف الأحزان أشد وأوضح اتجاها .
كلماتهم قليلة ، يكاد الظرف الذي يمرون فيه يترك للمكان ، بما به من آثار للدمار والدماء ، أن ينطق عن نفسه ، وعما دار به من أحداث ، وعما يحتقن به من غضب .. لا أحد لديه كلمات أقوى تعبيرا من كلمات المكان ، وما به من فصاحة في التعبير، عما جرى ويجري ، وما هو قادم .
كلماتهم مثل كلمات المكان ، فما جرى دالة ما يجري وما سوف يجري . فاخماد أنفاس المكان هو ما يتوخاه العدوان ، وأما أنفاس المكان، ففيها اصرار على قطع استمرارية العدوان، بالرسو على استيلاد النهر، الذي سوف يبعث القدرة ، في حياة عزم يعيد للمكان سيرته الأولى ، فالى هذا يرنون وبهذه الألفاظ يتلفظون ..عدنا الى أنفسنا ، ولم يعد ممكنا لأحد أن يسيطر علينا وعلى أرضنا .. انتهى زمانهم في أرضنا ، لكل شيء وقت ، وانتهى هذا الوقت ، فماذا ينتظرون .
فاذا ثمة بقية من وقت ، فذلك وقت دوران عجلات سياراتهم . ولكن يبدو بأنه حين لا يكون هناك وقت ، ولا يكون نصر يشيع في كذا موقف ذهول وارتباك ، ويضيع العقل .. يبدأ الفاشل بالدوران حول نفسه ، يتذبذب بين ما قبل وبين ما بعد .. بين جرائمه وبين الانتقام منه ، وتتفاقم مخاوفه، ويبحث عن ضمان عدم الانتقام منه ، بمزيد من سفك الدماء للقدرة التي يظنها قادرة على الانتقام منه .
قد جاء النهار ، فماذا بقاء أرتال الظلام ، وسط النهار في هذا المكان .
سقطت الأوهام والحقيقة أصبحت تتحدث عن نفسها . لم يعد يمكنه الاحتلال أن يظل احتلالا . أصبح من ضروراته أن يخرج من كونه احتلالا .. الاحتلال صناعة لعدم الاستطاعة في السيطرة على أنفاس المكان .
الاحتلال أضعف ممن استقوى عليهم بقوته ، وظنهم بأنهم الضعفاء . أصبح الاحتلال يريد من هؤلاء الضعفاء ضمانا لسلامته ، يريد منهم أن يحرسوا سلامته ، وذلك لكي يدير عجلات سياراته ويبدأ وقت الرحيل .
ليس أصح مما قالته أنفاس المكان : الغزاة وقت من قهر ، عذاب ، سلب ونهب .. لا شعب يقبل الغزاة . الشعوب حرية ، والغزاة لم يحملوا أبدا ألوية الحرية . لقد جاؤوا الي ما جاؤوا اليه . لم يأتوا لاحياء ، ولا لحرية .. جاؤوا يريدون حريتهم في الغصب والسلب . وأما البطش والعصف فهو الدليل على تكوينهم النفسي ، وعلى مقدار ما هم على استعداد ليفعلوه من أجل الوصول الى ما جاؤوا اليه .
لقد يصيب الزرع والشجر صيب ، ويصيب الناس صيب ، وهذا الصيب هم الغزاة ، ويعرف الغزاة بأنهم لا يصلون الى ما يريدون الا باخماد جذوة الحرية ، واسكات لهيب الكرامة ، واطفاء شموخ الأنفة والكبرياء ، وهذه هي العملية الدامية ، التي تستولد الأنوف ، التي تأنف أن ترى قيودا على أنفاسها ، وتأنف أن ترى محتلا، يبسط سيادة على أرضها . تقطع الطريق عليه الى ما يريد .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق