وكان الحمار مدرستي الأولى
بقلم : محمد يوسف جبارين (أبوسامح)..أم الفحم ..فلسطين
الصورة الوحيدة التي وجدتها مناسبة لأضعها في مكتبي هي صورة الحمار ، وهي الصورة التي كنت صورته اياها ، حين كنت صغيرا ، بعد عودته من مهمة بدت لي أيامها بأنها ليست بحال مهمة حمار ، بل خارجة عن كل مهمة يمكنه حمار أن يتولها ، فلقد رحت أتساءل : فأين الحمار ، وكنت ظننته ضاع ، أو انقاد بأحد من الناس استغفلنا وذهب به ، أو يكون تناهى بالبحث عن عشب يأكله الى مكان بعيد فلم يعرف عودة الينا ، فلم يكن أبي من الناس الذين لا يثقون بالحمار ، بل العكس من ذلك هو الصحيح ، فكان لا يربطه بحبل وانما يلف الرسن على رقبته ويترك له حريته ، وكنت أسأل والدي عن هذه المخاطرة ، بقولي له ، يا أبتي أنت تترك الحمار الى ضياعه منا ، فلم لا نربطه بحبل الى شجرة وليكن الحبل طويلا ، فعندها تكون الدائرة التي يتحرك فيها واسعة ، فيأكل ما يشاء ، ويتحرك كيف يشاء ، ومع ذلك نضمن بقاءه تحت سيطرتنا ، وكان يبسم لي أبي ويقول : يا بني الحرية تعطيه فرصتة ، فيبحث عن العشب الذي يحب أن يأكله ، واذا هو يعاني من مرض لا نعرفه ، فانه سوف يعرف أي عشب يأكله ليشفى من مرضه ، فالدواء لمثل الحمار موجود في الأعشاب التي تنبت ولا نعرفها ، لكنه مخلوق ، وهذا حاله ، فلا بد وأن يكون مزودا بما يأخذه اليها ، فالحرية حياة للحمار ، كما أنها هي الحل الذي يريحنا من اجابة على سؤال لن نجد له جوابا ، فبأي العشب يشفى ، كيف أعرف ؟ ، فلست عالما في طب الحيوان ، وانما أنا فلاح أرى الحرية في الطبيعة أمامي ، وأرى الضرورة ، ولا أرى القيد على حرية الحمار يحل مشكلة مثل هذه التي نقول بها .
ويومها فتشت عن الحمار ولم أجده ، فسارعت أقول ذلك لأبي ، فقال: هو عائد الينا بعد أن يكمل مهمته ، ولم أفهم ، فكيف يوكل أبي مهمة كهذه لحمار ، كيف يا أبي ، قال : اذا أنت تجاوزت الحدود يقبضون عليك ولا تعود ، واذا هو تجاوزها ، لا يفطنون اليه ، فهو حمار وحين يرونه يظنونه لأحد الفلاحين ، فلا يعيرونه انتباها بشك ، فهذا ما يدل عليه مظهره ، فقلت : هو حمار ، لا عقل له ، ينساق بأي أحد يلقاه على الطريق ويعترض دربه ويحاول أن يبسط سيطرته عليه ، قال : نعم ، هذا صحيح ، لكن الذين سوف يلقاهم الحمار على طريقه لن يكونوا ممن سوف يعترضونه ، فكل الفلاحين يحترمون بعضهم بعضا ويعرفون قيمة الحمار في حياتهم ، وهم جميعا على مودة مع بعضهم ، فكلهم أبناء قرية (الطيبة ) وهي صغيرة ، واذا ثمة مشكلة فحرس الحدود ، فمن جانبنا فلا حل لتواصل مع جدك الا بواسطة الحمار ، فهو الحل الذي لا سواه ، الا أن أجازف ، بالذهاب اليه ، وعندها أضع نفسي وجدك في مخاطرة لا نعرف عواقبها ، فأو يعتقلوني ، أو يصلهم نبأ وصولي الى جدك ، وعندها يتورط هو في مشكلة لا نعرف كيف ينجو منها ، فهؤلاء الحراس لهم مهمات خالية من كل حس بنا ، ولا يهتمون لغير أوامر صدرت اليهم ، وما كان التفاتي للحمار كرسول صادق أمين ، الا لأنه الجهة التي لا تخطر على بال أولئك الحراس ، فما يقوم به الحمار ، هو الذي لا ينزل لهم في بال ، وفي داخل هذه المساحة من غفلتهم ، نتحرك بالحمار ، ونتواصل مع جدك ، ولكنه سوف يعود ، لقد تسللت في ليال سابقة عبر الحدود لأرى جدك وجدتك في قرية الطيبة ، وكان الحمار رفيقي ، وهو يعلم الطريق ، وأنا وضعته على الطريق ، وعلى ظهره هديتنا الى جدك وجدتك ، وعندما يصلهم يأخذون عن ظهره ما أرسلته لهم ، ثم يضعونه على الطريق ، ويأتي ، فالطريق قصير ، والدرب الذي يسلكه وعر ، بين جبلين .
وانتظرت لأعرف ماذا يحصل ، وما هي الا ساعة أو أكثر فاذا به الحمار أمامنا ، ونهضت اليه ، وناديت يا أبتي ها هو ، فجاء ، ونظر متفحصا ، فهل ثمة ما يحمله الحمار ، واذا هي حطة وعقال ، فأخذها أبي وقال هذه حطة جدك وهذا عقاله ، أرادها لي هدية وتعريفا بأنه هو من أخذ حمولة الحمار ، وهذا يعني بأن الهدية وصلت ، وراح أبي يجلس على الأرض تحت شجرة لوز وينسرح في تفكيره ، ويغطي وجهة بالحطة ، كأنما يود أن يخفي عني ضعفا انسانيا ، وعندها أخذت للحمار الصورة ، فهي صورة ليست مثل كل الصور ، فان فيها حكاية بطلها حمار ، ونسيت أن أصور أبي ، ولم أفهم الى الآن ما سر نسياني ، لكني أحيانا أرد ذلك الى رفض في داخلي بأن أحتفظ بمشهد لأبي أراه فيه باكيا ، فهو أكبر من أن يبكي ، فكيف بكى ، ولماذا الكبير يذرف الدمع في لحظة ضعف ، ولماذا لا يذرف عقله فكرة ، بدلا عن دمعة تسيل من عينيه ، ومن جانب آخر كان الحمار مشهدي الذي يأخذني اليه ، فان فيه قدرة على تجاوز الحدود المصطنعة ، وبه منهج تواصل بين أبناء الوطن ، وفيه مناخ أسئلة تشب أمامي متسائلة ، وتهيج بعقلي .
فكان الحمار بقدرته على الربط بين الابن وأبية ، قد أخذ مني عقلي كله ، وهو ما دعاني الى سؤالي ، فأين عقلي ، فاذا هو الحمار في داخله وفي متناولاته ، وفي لحظة ما تمنيت أن أماثل الحمار في أعمال معينة ، بل تماهيت به ، بل تمنيت أن أكون هو في ابداعات بدا لي لأول وهلة بأني لا أقدر عليها ، وهو ما أثار استهجانا من جميع من هم حولي ، بل راح كثيرون يبسمون ، ومنهم من قهقه وراح يغرب في ضحك أخذه اليه ، وأنا أنظر الى هؤلاء الأحبة ، وأنا فاهم ماذا دعاهم الى غربة عن فهم ، فلم يتيحوا لي أن اسرده على آذانهم ، فعساه الفهم يريحهم على قبول ما أفعله ، فصورة الحمار التي وضعتها فوق رأسي هي ليست أي صورة لأي مخلوق ، انه رفيق عمر عزيز ، جاء في وقت عزيز عز فيه الصديق ، وعز في المأكل والمشرب ، وعز فيه الفهم لمجرى المقدرة على تجاوز الصعوبات في الحياة ، وكان هذا الحمار الذي في الصورة الصديق والأخ ووسيلة أبي الى أهداف هي معيشية ونبيلة ، وكل ما تريدون من نبل وسيلة كهذه في أدائها لوظيفتها ،
فهو الحمار الذي بدا بأنه لا يمكنه نظام الجمع لأسباب العيش أن ينتظم بلاه ، فهو كما آلة نقل أو آلة حراثة زراعية نراها ، لكنها ليست مصنوعة وانما مخلوقة لأداء وظائف منها هذه التي ننتفع بها ، وكان الحمار هو الذي ننقل عليه الماء من (عين الشعرة ) الى أرضنا ، وهو الذي يجر المحراث ، وتتأتى بفضله حراثة مساحات من الأرض لم تزل قصرا عليه ، فآلة الحراثة الصناعية لا يمكنها أن تحرث منحدرات من الأرض ، لكن الحمار أهل لها، ويا لفرحة أبي حين كان يراه يؤدي خدمته هذه ، فأنا وأبي وأمي والحمار ، فهو واحد من الأسرة ، فهو مثلنا ، ومعنا في تكاملية العلاقة مع المعيشة ، وكنا نتعامل معه بأشد الحرص عليه ، فبلاه تصبح الحياة صعبة وثقيلة ، فهو مصدر نماء وتطور ، وذلك لأنه آلية بلاها يصعب التقدم ، فاسم الحمار في مجتمع زراعي متخلف ارتبط بالحياة ، فلولا الحمار ، لضاقت الحياة علينا ضيقا فوق ضيق ، ولكان ثقيلا جدا علينا وأد جوعنا ، ونقل ماء للشرب وللاغتسال الى بيوت من طين ، سقفها من أخشاب أو قصب كنا نسكنها ، فلا كان ماء يصل هذه البيوت عبر ماسورة ، ولا كهرباء كانت تعرفها بيوتنا .
فحمارنا أشبه ما يكون بكتاب اسمه الوسيلة الى الأهداف ، وفصوله هي : كيفية تجاوز الصعوبات ، والمقدرة على الاحتمال حين أداء المهمات طال الدرب اليها أم قصر ، ثقيلة كانت أم سهلة الاحتمال ، فليس عجبا أن ألمس آثاره في الوعي عندي حين أعزم على قراءة أو بناء ، أو التصدي للغزاة الأجانب ، فهو دالة ارادتي الى ضرورتها في شق دربها الى ترسيخ فكرة تبدل في ظروف تضغط بكل قسوة ، فالحمار بحق أثرى تأملاتي في سيرورة زماني ، فهو بكل صلة لي بمجرى حياتي التي أحيا دالة ماذا يتوجب فعله ، ليغدو بيد الواجب ما يمكنه من أن يجرى مجراه ، ويستوفي مطلوبه ، وهي الاضافة الواجبة في الحركة ومنتوجها في الحياة .
فأنا المخلوق وهذه الطبيعة ممتدة بكل سعتها أمامي ، فماذا يسهم في نموي وتطوري ، وكيف أمتلك وسائلي الى آمالي ، فهذا هو السؤال الذي أودعه الحمار في ذاكرتي ، وكان له أبلغ الأثر في رسم دربي الى التفكير الدائم بكيف يمكني أن أتجاوز الصعب الذي في تجاوزه أصل الى مرادي ، فأنا وغاياتي والطريق الممتدة بينهما ، فكيف أستوي على آمالي ، فالطريق ليست سهلة ، ولا بد من استجماعي أدواتي ، فأين هي ، فلا بد من ابداعها فتكون ، فهي المغالبة الضرورة التي لا مفر منها ، فكيف أعلو بقدراتي لكي أقوى على صعوبة أراها بيني وبين أداتي ، وبيني وبين غاية هي مرادي ، فهنا درس التربية والتعليم الأول والضروري في الحياة الذي استقيته من حماري ، أو على الأصح حمار أبي ، أو حمار الأسرة ، فهو وسيلتنا التي كانت ، والتي رافقت أبي طيلة عمره ، فالى الآن اذا جاء ذكره على لسان ، كان ذكر الحمار مرافقا لذكره ، فمن بعد صلاة الصبح مباشرة كان يركب الحمار ويسعى الى أرضه ، ويراه الناس ، واذ باع التين أو الزيتون رأوه بمرافقة الحمار ، فكل الذين عرفوا أبي عن قرب يعلمون بأنه جبار وفلاح نادر ويمتاز بالحكمة وسعة الصدر ونظراته بعيدة ، وكل شيء عنده بحساب ، وقد أخبرني أحد الناس بأنه مدين لأبي بمعيشته ، بعلاقته بالحياة ، فلم أفهم ، وطلبت المزيد من التفصيل ، فقال بأن البيت الذي يسكنه وأسرته يقع على الطريق المؤدي الى أرض لأبي ، وبأنه لاحظ عند الفجر ، بأن والدي على الحمار في طريقه الى أرضه ، بينما الأمطار كانت غزيرة ، فعجب للأمر ، فراح تحت المطر يلحق بأبي ، فلما داناه أحس بأنه نائم وهو على ظهر الحمار ، فأيقظه من نومه ، فشق أبي عينيه ليصافحه بابتسامتة المعهودة التي يصافح بها من يلقاه قبل مصافحته باليد ، فسارع يسألة ، كيف هذا يا عم .. تحت هذا المطر ، فقال أبي بأن المطر خير ، فلماذا نضيق به ، وقال الرجل : فمن يومها لم أقعد عن العمل يوما واحدا ، وكنت غالبا ما أريح في غالبية الأيام في الشتاء ، وقد كان هذا درس الاقتصاد الحقيقي لي في حياتي ، وماذا عن الحمار في تلك الظروف ، فقد كان الحمار يعرف الدرب حتى ولو كان صاحبه نائما ، وهنا الحمار الوسيلة الى الغاية ، فلا مفر من الحمار ، فأن أكون حمارا في جانب من ممارسي ، فلا مفر ، فلا بد من أحمل أثقالي مهما بدت لي ثقيلة ، ولا بد من المشي ما بين حال أنا فيه الى حال أريد أن أبلغه ، ولا يجوز لي أن أضجر بأعباء ولا أن أنهار تحت وطأتها ، فلا بد من أن تكون أقدامي قوية ، ولا بد من أن تكون عضلات جسمي سوية ملائمة ، فلا بد اذن من أن أهييء نفسي لكل مواجهة مع كل صعب ، بصرف النظر ، كان هذا في صراع مع الغزاة الأجانب ، أو كان مادة صعبة الفهم في كتاب ، فلتكن الصعوبة كيفما تكون ، فلن تحول بيني وبين أن أتجاوزها ، ومن هنا الالحاح على الابداع ، فأن أكون مبدعا مسألة فكر واراداة وفهم يعلو بي في كل مغالبة الى أن أصير ما أريد ، ومعي حاجتي التي أبدعها ، لحاجتي لها ، لابداع حاجتي التي تليها ، فهي سيرورة علم بظروفي وعلو بنفسي ومكابدة واستواء على ما أريد ، ومن هنا فكرة الابتكار والاختراع في خلال علاقة عقلي بنفسي وبظروفي ، وبالمادة على وجه الخصوص ، فمن الحمار الوسيلة الى الغايات ، عرفت بأني يجب أن أنتجه دوما في مجرى علاقتي في البحث عن كل رقي لي بحياتي ، ولكن كيف ؟ ، فهذا مناط العقل ، فهذا العقل مكلف دوما بانتاج الحمار ، فمن دون ذلك يظل يبسط النظرية تلو الأخرى ، أو الفكرة تلو الفكرة ، وما يناله من ذلك غير التنظير ، كأن يلاحظ المشكلات ، ولربما يصوغها بأسئلتها التي تطرحها ، ويظل يحكي عن صلاتها بنظرية ما ، ولا يدنو ولا يقترب من منهج يؤسس به طريقة الى حلول يتمنى أن يصل اليها .. لهذه الأسئلة المطروحة عليه ، لكنه بالشروع في البحث عن وسائله التي بها يحقق جمعا بين الأسباب في سبب ، أو بحثا عن الأسباب ليجمعها بعد أن يعرفها ويمتلك أسلوب جمعها ، فعندها الجدل مع الطبيعة يستوي على غاياته ، وسير التطور يجد ما يصب في عروقه من طاقات ابداعية ، فالحمار مرتكز العقل في السعى في تأسيس مرتكزات التطور ، لهذا كتبت تحت صورة الحمار جملة تقول : اذا أردت تطورا فعليك بالحمار ، ومن الغريب أن أجد ممن مازهم عقل نافذ قد قرأوا الجملة ، وتساءلوا بدهشة ، وما بلغوا عمقها الا بعد حوار طال بطول هذا المقال أو أكثر ، فعندها فأول ما خطر على بال أحدهم قوله لي : بأنك لم تتغير ، فمنذ كنت صغيرا وأنت مولع بكتابات توفيق الحكيم ، وخاصة منها كتابه " حمار الحكيم " ، وآخر لا أزال أذكر قوله : بأن كون الحمار بهكذا أهمية ، فهو جدير بأن يصبح يوما رئيس بلدية على الأقل ، أو مدير مدرسة ، أو لربما تصل بنا هندسة الجينات الى حال نرى فيه يوما انسانا وله رأس حمار ، أو حمارا وله رأس انسان ، فالاستنساخ يمكنه أن يسفر عن احتمال كهذا ، وعندها سوف تكون فرصة حمار الى رئاسة مسألة ممكنة ، ولربما تتوالد على الأرض من جراء ذلك كله قرى من حمير برؤوس بشر ، أو ما شابه ذلك ، فمن يدري ، ولا أزال أتذكر دهشتي يوم أن رأيت حمارا في الجامعة ، منساقا بطلاب يزفهم الفرح بالحمار ، وسألت ؟ وسرعان ما عرفت بأن الحمار يؤخذ في يوم الطالب برمزيته ، ذلك بأن هناك من انتبه الى وجه شبه قائم بين تحميل الحمار ما يراد نقله من مكان الى مكان ، وبين تحميل الطالب من المواد التعليمية وامتحانه فيها للتأكد من مقدرته على حمله لها ، فلا الطالب يسأله أحد ماذا سوف يوضع على كاهله ولا الحمار ، وانما عليه أن يحمل أثقاله ويمضي ، وليس لمن يتوجب عليه أن يحمل سوى أن يحتمل .
وكان حمار أبي ، من وجهة نظر تربوية وتعليمية هو مدرستي الأولى التي تخرجت منها ، فأنا في تحديدي لمجرى نمو الوعي في ذاتي ، انما أستطيع أن أعتز بأني خريج مدرسة الحمار ، فهي مدرسة الطبيعة الأولى التي من خلالها عرف عقلي طريقه الى محاولاته الرامية دوما الى تجاوز الصعوبة التي تعترضه ، وذلك في خلال سيره في البحث عن المفاهيم التي تتشكل بها حركة الأشياء في هذا الكون ، ولم تزل صورة الحمار التي أحفظها في تجليها من مكانها ، في مكتبتي ، فوق رأسي ، توحي لي دوما بأن بي المقدرة على اكتشاف وسائلي الى غاياتي ، فكلما أحسست بأني أنوء تحت أثقالي ، ألتفت الى الصورة بتلقائية الباحث عن عون وقت الشدة ، فيشب في داخلي شيء ما يقول لي بأني أكبر من هذه الذات .. ذاتي التي توحي لي بعجزي ، وانما يمكني أن استخرج ذات أخري من ذاتي في كل حين ، وأقدر بها أن أتجاوز كل صعوبة ، فجذور الوعي عندي لم تزل تمدني بما يلزمني من مدرستي الأولى ، فمن هناك مضى عقلي ، بتساؤله الدائم عن القوى والحركة في الطبيعة ، فما هي وكيف تجرى هذه وتلك في الزمان ، وما هي الوسيلة اليها ، وكيف يتأتى فهمها ، وكيف يمكني توظيفها ، بعد الاطمئنان الى معرفة أسباب تشكلها ، فوجدت نفسي والفيزياء في عناق ، ودوما كان الحمار ، فكيف السبيل الى وسائلي وأدواتي في نموي وتطوري ، وبين يدي الحمار عرفت أن أسأل وأبحث عن الجواب ، في ظروف من بيت من طين وسراج يبدد ظلام الليل وأب وأم وحقول وزراعة ومكابدة ، وهي الظروف التي وجدنا أنفسنا فيها ، حين كان علينا أن نكون في مواجهة دول تخرجت من حرب عالمية أولى وحرب عالمية ثانية ، فيا ليت أن الحمار نطق بما هو في مجرى الحياة في عقلية عربية سبقتني الى الدنيا ، ويا ليته العقل العربي وعى منذ مئات السنيين ، ما يعنيه الحمار ، وما يمكنه أن يفيده في الانقلاب على ذاته ، كفا لركود واستنقاع وبلادة ، وبحثا عن بعث جديد تتجدد به الوسائل والغايات والعلاقات بينها ، فنقلة كهذه كان يمكنها أن تكون بداية نهضوية تشمل الحياة برمتها ، وعندها لربما بأثرها في مجرى التطور المتلاحق ، ما عرفت الحمار في طفولتي ، وانما تمنيت أن أراه ، ولربما لا أفلح في أن أعرف له شكلا في غير صورة في كتاب ، ولربما لا ألتفت اليها ، وبدلا عنها ألتقت الى صورة لرائد فضاء عربي يهبط على القمر .
................ 23/10/2010
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق